المكتبة السنّية

:: عودة للمكتبة

كتاب العقيدة النسفية

:: الصفحة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

***

هذه واحدة من أهم ما كُتِبَ في علم التوحيد، وهي العقيدة النسفية للإمام العلامة المحدث أبو حفص نجم الدين عمر بن أحمد بن لقمان النسفي الحنفي، المولود سنة إحدى وستين وأربع مائة هجرية، التي اهتم بها كثير من العلماء الأفاضل أمثال العلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، والمولى رمضان بن محمد، والشيخ محمد بن محمد الشهير بابن الغرس الحنفي، والمولى أحمد بن موسى الشهير بالخيالي، والمولى مصلح الدين مصطفى الكستلي، والمولى علاء الدين علي العربي، وغيرهم كثير.

***


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام النسفي رحمه الله:

قال أهل الحق: حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق خلافاً للسوفسطائية. وأسباب العلم للخلق ثلاثة: الحواس السليمة، والخبر الصادق، والعقل.

فالحواس: السمع، والبصر، والشّم، والذوق، واللمس. وبكل حاسة منها يوقف على ما وضعت هي له: كالسمع، والذوق، والشم.

والخبر الصادق على نوعين: (أحدهما) الخبر المتواتر, وهو الثابت على ألسنة قوم لا يُتصوَّر تواطؤهم على الكذب، وهو موجب العلم الاستدلاليَّ، والعلم الثابت به يضاهي العلم الثابت بالضرورة في التيقن والثبات. وأما العقل: فهو سبب للعلم أيضاً، وما ثبت منه بالبديهة فهو ضروري كالعلم بأن كل شيء أعظم من جزئه، وما ثبت منه بالاستدلال فهو اكتسابي.

والإلهام ليس من أسباب المعرفة بصحة الشيء عند أهل الحق، والعالم بجميع أجزائه محدث، إذ هو أعيان وأعراض. فالأعيان ما له قيام بذاته، وهو إما مركب وهو الجسم، أو غير مركب كالجوهر وهو الجزء الذي لا يتجزأ. والعرض ما لا يقوم بذاته ويحدث في الأجسام والجواهر كالألوان، والأكوان، والطعوم، والروائح. والمحدث للعالم هو الله تعالى الواحد القديم الحي القادر العليم السميع البصير الشائي المريد ليس بعرض، ولا جسم، ولا جوهر، ولا مصوَّر، ولا محدود، ولا معدود، ولا متبعض، ولا متجزءٍ، ولا متركب، ولا متناه، ولا يوصف بالماهية، ولا بالكيفية، ولا يتمكن في مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا يشبهه شيء، ولا يخرج عن علمه وقدرته شيء.

وله صفات أزلية قائمة بذاته وهي لا هو ولا غيره، وهي العلم، والقدرة، والحياة، والقوة، والسمع، والبصر، والإرادة، والمشيئة، والفعل، والتخليق، والترزيق، والكلام، وهو متكلم بكلام هو صفة له أزلية ليس من جنس الحروف والأصوات وهو صفة منافية للسكوت والآفة، والله تعالى متكلم بها ءامر ناه مخبر، والقرءان كلام الله تعالى غير مخلوق، وهو مكتوب في مصاحفنا، محفوظ في قلوبنا، مقروء بألسنتنا، مسموع بآذاننا، غير حالٍّ فيها، والتكوين صفة لله تعالى أزلية، وهو تكوينه للعالم ولكل جزء من أجزائه لوقت وجوده، وهو غير المكوَّنِ عندنا، والإرادة صفة لله تعالى أزلية قائمة بذاته تعالى.

ورؤية الله تعالى جائزة في العقل واجبة بالنقل، وقد ورد الدليل السمعي بإيجاب رؤية المؤمنين لله تعالى في دار الآخرة، فيُرى لا في مكان، ولا على جهة من مقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى، والله تعالى خالق لأفعال العباد من الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان وهي كلها بإرادته، ومشيئته، وحكمه، وقضيته، وتقديره، وللعباد أفعال اختيارية يثابون بها ويعاقبون عليها، والحسن منها برضاء الله، والقبيح منها ليس برضائه تعالى، والاستطاعة مع الفعل وهي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل، ويقع هذا الاسم على سلامة الأسباب والآلات والجوارح، وصحة التكليف تعتمد هذه الاستطاعة، ولا يُكلف العبد بما ليس في وُسعه[1].

وما يوجد من الألم في المضروب عقيب ضرب إنسان، والانكسار في الزجاج عقيب كسر إنسان، كل ذلك مخلوق الله تعالى لا صنع للعبد في تخليقه. والمقتول ميت بأجله، والموت قائم بالميت مخلوق لله تعالى لا صُنعَ للعبد في تخليقه. والمقتول ميتٌ بأجله، والموت قائم بالميت مخلوق لله تعالى، لا صُنع للعبد فيه تخليقاً ولا اكتساباً، والأجل واحد، والحرام رزق، وكلٌّ يستوفي رزق نفسه حلالاً كان أو حراماً، ولا يُتصورُ أن لا يأكل إنسان رزقه أو يأكل غيره رزقه، والله تعالى يُضِلُّ من يشاء, ويهدي من يشاء، وما هو الأصلح للعبد فليس ذلك بواجب على الله تعالى، وعذاب القبر للكافرين وبعض عصاة المؤمنين، وتنعيم أهل الطاعة في القبر، وسؤال الملكين منكر ونكير ثابت بالدَّلائل السمعية، والبعث حق، والوزن حق، والكتاب حق، والسؤال حق، والحوض حق، والصراط حق، والجنة حق، والنار حق وهما مخلوقتان الآن، موجودتان باقيتان لا تفنيان ولا يفنى أهلهما.

والكبيرة لا تخرج العبد المؤمن من الإيمان ولا تدخله في الكفر، الله تعالى لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من الصغائر والكبائر، ويجوز العقاب على الصغيرة والعفو عن الكبيرة إذا لم يكن عن استحلال, والاستحلال كفر.

والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر، وأهل الكبائر من المؤمنين لا يُخَلَّدونَ في النار. والإيمان في الشرع: هو التصديق بما جاء النبي عليه الصلاة والسلام به من عند الله تعالى، والاقرار به، وأما الأعمال فهي تتزايد في نفسها، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، والإسلام واحد، فإذا وُجِدَ من العبد التصديق والإقرار صح له أن يقول: أنا مؤمن حقا، ولا ينبغي أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، والسعيد قد يشقى، والشقيُّ قد يسعد، والتغير يكون على السعادة والشقاوة دون الإسعاد والإشقاء، وهما من صفات الله تعالى، ولا تغيرٌ على الله ولا على صفاته.

وفي إرسال الرسل حكمة، وقد أرسل الله تعالى رسلاً من البشر إلى البشر مبشرين ومنذرين ومبينين للناس ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا والدين، وأيدهم بالمعجزات الناقضات للعادة.

وأول الأنبياء آدم عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقد رُوي بيان عددهم في بعص الأحاديث، والأولى أن لا يُقتَصَرَ على عدد في التسمية، فقد قال الله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك}، ولا يُؤْمَنُ في ذكر العدد أن يُدْخَلَ فيهم من ليس معهم، أو يُخْرَجَ منهم من هو فيهم، وكلهم كانوا مُخبرينَ مبلغين عن الله تعالى صادقين ناصحين، وأفضل الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، والملائكة عِباد الله تعالى العاملون بأمره، ولا يوصفون بِذُكورَةٍ ولا أُنوثَةٍ.

ولله تعالى كتب أنزلها على أنبيائه، وبيَّن فيها أمرَهُ ونهيَهُ، ووعده ووعيده، والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة بشخصه إلى السماء، ثم إلى ما شاء الله تعالى من العلى حق.

وكرامات الأولياء حق، فَيُظْهِرُ الكرامةَ على طريق نقض العادة للولي من قطع المسافة البعيدة في المُدَّة القليلة، وظهور الطعام والشراب واللباس عند الحاجة، والمشي على الماء، والطيران في الهواء، وكلام الجماد والعجماء، وغير ذلك من الأشياء، ويكون ذلك معجزة للرسول الذي ظهرت هذه الكرامة لواحد من أمته، لأنه يَظْهَرُ بها أنه وليٌّ ولن يكون ولياً إلا أن يكون محقاً في ديانته, وديانته الإقرار برسالة رسوله.

وأفضل البشر بعد نبينا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم عليٌّ المرتضى. وخلافتهم ثابتة على هذا الترتيب أيضاً. والخلافة ثلاثون سنةً، ثم بعدها ملكٌ وإمارة.

والمسلمون لا بد لهم من إمام ليقوم بتنفيد أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسدُّ ثغورهم، وتجهيز جيشهم، وأخذِ صداقاتهم، وقهر المُتَغَلبَةِ والمُتَلَصّصَة، وقطاع الطريق، وإقامة الجُمَعِ والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصِّغار والصغائر الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم ونحو ذلك.

ثم ينبغي أن يكون الإمام ظاهراً لا متخفياً ولا منتظراً، ويكون من قريش، ولا يجوز من غيرهم، ولا يختص ببني هاشم وأولاد علي رضي الله عنه، ولا يشترط في الإمام أن يكون معصوماً، ولا أن يكون أفضل من أهل زمانه، ويشترط أن يكون من أهل الولاية المطلقة الكاملة، سائساً قادراً على تنفيذ الأحكام، وحفظ حدود دار الإسلام، واستخلاص حق المظلوم من الظالم، ولا ينعزل الإمام بالفسق والجوْرِ. وتجوز الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر، ويصلى على كل بر وفاجر، ويُكفُّ عن ذكر الصحابة إلا بخير.

ونشهد بالجنة للعشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرى المسحَ على الخفين في الحضر والسفر، ولا نحرِّم نبيذ التمر. ولا يبلغ وليٌّ درجة الأنبياء أصلاً، ولا يصل العبد إلى حيث يسقط عنه الأمر والنهي. والنصوص تُحْمَلُ على ظواهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد، ورد الصوص كفر، واستحلال المعصية والاستهانة بها كفر، والاستهزاء على الشريعة كفر، واليأس من رحمة الله كفر، والأمن من عذاب الله كفر[2], وتصديق الكاهن بما يخبره عن الغيب كفر. والمعدوم ليس بشيء.

وفي الدعاء للأموات وصَدَقَتِهِم عنهم نفع لهم، والله تعالى يجيب الدعوات، ويقضي الحاجات. وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة من خروج الدجال, ودابّة الأرض، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه السلام من السماء، وطلوع الشمس من مغربها فهو حق. والمجتهد قد يُخطئ وقد يصيب، ورسل البشر أفضل من رسل الملائكة، ورسل الملائكة أفضل من عامة البشر، وعامة البشر أفضل من عامة الملائكة[3]، والله أعلم.

انتهى كلام شيخ الإسلام الإمام النسفي رحمه الله تعالى وجمعنا وإياه مع الرسول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وجميع الأولياء والصديقين والموحدين في الفردوس الأعلى.

آمين يا أرحم الراحمين.



[1] قال تعالى: "لا يُكلف الله نفساً إلا وُسعها".

[2] الأمن من مكر الله واليأس من رحمة الله كل منهما يُخرج الإنسان من دين الله، هذا تفسير الحنفية فعندهم يعتبرونهما كفر، أما عند الشافعية فإنهم يعتبرون هذين من الكبائر ولا يعتبرونهما من الكفريات. وسبيل الحق بين الأمن واليأس، نقول إذا متنا ونحن بحالة التوبة نجوْنا من عذاب الله في القبر وفي الآخرة، وإلا فيجوز أن يسامحنا الله ولا يعذبنا بذنوبنا، ويجوز أن يعذبنا بها. وتفسير الأمن من مكر الله أن الذي نفى عذاب الله للعصاة فهذا أمن مكر الله وكان من الكافرين، وكذلك الآيس من رحمة الله أي الذي يعتقد أن الله لا يغفر الذنب للمسلم التائب فهو كافر، هذا تفسيرهما عند الحنفية، وأما الأمن من مكر الله عند الشافعية المعدود من الكبائر فهو أن يسترسل في المعاصي اتكالا على رحمة الله، وأما اليأس من رحمة الله عندهم فهو أن يجزم الشخص أن الله لا يرحمه لذنوبه بل يعذبه فهو أيضاً عندهم كبيرة وليسا عندهم من نوع الردة، وعلى هذا المعنى عدهما كثير من الشافعية في كتاب الشهادة من الكبائر التي تمنع قبول الشهادة.

[3] يعني أن عامة الأولياء من أتباع الأنبياء هم أفضل من عامة الملائكة أي من سوى خواصهم، ومراد المؤلف بقوله: {رسل الملائكة} الخواص والله أعلم.

 

المكتبة السنّية

:: عودة للمكتبة

تم بحمد الله

:: الصفحة الرئيسية

الصفحة الرئيسية