المكتبة السنّية

:: عودة للمكتبة

الاعتبار ببقاء الجنة والنار

:: الصفحة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

 

الاعتبار ببقاء الجنة والنار
لشيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي
 

***
رد به على ابن تيمية ما عمله في نفي الخلود في النار تبعاً لجهم بن صفوان المبتدع المشهور. وعلى موافقته يدندن ابن الزفيل الزرعي كما هو ديدنه وقد تعود ان يصدي على نعيقه في مفرداته... وسيجزي الله كلاً بعمله

وفي ظهر الأصل بخط الحافظ الشمس بن طولون
(فائدة)
قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في فتاويه في أثناء مسألة "إذا وقف على بنيه الثلاثة الى آخرها": وهذا الرجل يعني ابن تيمية كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وءاله وسلم وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به وحنث ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي انه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته الى النقل بفهمه كما في هذه المسألة ولا في بحث ينسبه لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحد جدا, وهو كان مكثراً من الحفظ ولم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جسارة واتساع خيال وشغب كثير, ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ثم مات ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته الآن تلك أمة قد خلت ولكن له اتباع ينعقون ولا يعون ونحن نتبرم بالكلام معهم ومع أمثالهم. وأطال رحمه الله في الرد عليهم في فتاويه في الوقف فراجعه فانه مهم ونسأل الله حسن الاستقامة في القول والعمل بحق محمد وءاله والحمد لله وحده. أهـ
***


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم.

وبعد فان اعتقاد المسلمين ان الجنة والنار لا تفنيان وقد نقل أبو محمد ابن حزم الإجماع على ذلك وان من خالفه كافر بإجماع, ولا شك في ذلك فانه معلوم من الدين بالضرورة وتواردت الأدلة عليه قال الله تعالى "بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقال تعالى "ان الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون" وقال تعالى "ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقال تعالى "والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقال تعالى "خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا" وقال تعالى "ان الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقال تعالى "ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها" وقال تعالى "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها" وقال تعالى "ان الذين كفروا وظلموا" الى قوله تعالى "خالدين فيها ابداً" وقال تعالى "النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله" وقال تعالى "والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقال تعالى "ألم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله فان له نار جهنم خالداً فيها" وقال تعالى "وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم" وقال تعالى "كلما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقال تعالى "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والارض الا ما شاء ربك" وقال تعالى "أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقال تعالى "فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين" وقال تعالى "لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون" وقال تعالى "ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا انفسهم في جهنم خالدون" وقال تعالى وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون" وقال تعالى "يضاعف له يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً" وقال تعالى "ان الله لعن الكافرين واعد لهم سعيراً خالدين فيها ابداً" وقال تعالى "قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين" وقال تعالى "ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد" وقال تعالى "كمن هو خالد في النار" وقال تعالى "لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" وقال تعالى "فكان عاقبتهما انهما في النار خالدين فيها" وقال تعالى "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير" وقال تعالى "ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها ابداً" وقال تعالى "ان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها". فهذه أربع وثلاثون ءاية فيها لفظ الخلود وما اشتق منه أربع مع التأييد,


والآيات التي فيها معناه كثيرة ايضاً.

كقوله تعالى "فلا يخفف عنهم العذاب" وقوله تعالى "لا يخفف عنهم العذاب" وقوله تعالى "وما هم بخارجين من النار" وقوله تعالى "وما له في الآخرة من خلاق" وقوله تعالى "وما لهم من ناصرين" وقوله تعالى "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها" وقوله تعالى "لا يجدون عنها محيصاً" وقوله تعالى "وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم" وقوله تعالى "ليس مصروفاً عنهم" وقوله تعالى "أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار" وقوله تعالى حكاية عنهم "ما لنا من محيص" وقوله تعالى "جهنم يصلونها وبئس القرار" وقوله تعالى "اخسؤا فيها ولا تكلمون" وقوله تعالى "أولئك يئسوا من رحمتي" وقوله تعالى "فاليوم لا يخرجون منها" وقوله تعالى "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها" وقوله تعالى "كلما أرادوا أن يخرجوا منها اعيدوا فيها" وقوله تعالى "لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها" وقوله تعالى "مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً" وقوله تعالى "فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون" وقوله تعالى "أدعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب" الى قوله "وما دعاء الكافرين إلا في ضلال" وقوله تعالى "ألا ان الظالمين في عذاب مقيم" وقوله تعالى "فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين" وقال تعالى "فلن نزيدك إلا عذاباً" وقال تعالى "ثم لا يموت فيها ولا يحيى" وقال تعالى "نار مؤصدة" وقال تعالى "وما هم عنها بغائبين".

وغيرها من الآيات كثير في هذا المعنى جدا وذلك يمنع من احتمال التأويل ويوجب القطع بذلك, كما ان الآيات الدالة على البعث الجسماني لكثرتها يمتنع تأويلها, ومن أولها حكمنا بكفره بمقتضى العلم جملة.

وكذلك الأحاديث متظاهرة جداً على ذلك.

كقوله صلى الله عليه وءاله وسلم "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتواجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداَ ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها ابدا" متفق عليه من حديث أبي سعيد وقوله صلى الله عليه وءاله وسلم "أما أهل النار الذين هم أهلها فانهم لا يموتون فيها ولا يحيون" صحيح من حديث أبي سعيد وقوله عليه السلام "إذا صار أهل الجنة الى الجنة وأهل النار الى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار فيذبح فينادى مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت" وفي رواية صحيحة "فخلود فلا موت وفي الجنة مثل ذلك" وقال تعالى "والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون" وقال تعالى "قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله" وقال تعالى "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" وقال تعالى "لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها نزلاً من عند الله" وقال تعالى "ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم" وقال تعالى "والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابداً وعد الله حقاً" وقال تعالى "فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها" وقال تعالى "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابداً" وقال تعالى "أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها" وقال تعالى "والسابقون الاولون" الى قوله "وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار خالدين فيها" وقال تعالى "ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا الى ربهم اولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون" وقال تعالى "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" الى قوله "أولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون" وقال تعالى "وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض الا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ " وقال تعالى "أكلها دائم وظلها" وقال تعالى "وادخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها باذن ربهم" وقال تعالى "لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين" وقال تعالى "وبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ان لهم أجراً حسناً ماكثين فيه ابداً" وقال تعالى "ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولا" وقال تعالى "جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى" وقال تعالى "وهم فيما اشتهت انفسهم خالدون" وقال تعالى "الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" وقال تعالى "أذلك خير ام جنة الخلد التي وعد المتقون" وقال تعالى "خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً" وقال تعالى "لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الانهار خالدين فيها" وقال تعالى "ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقاً" وقال تعالى "سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" وقال تعالى "ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم اجر غير ممنون" وقال تعالى "وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون" وقال تعالى "ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" الى قوله "خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون" وقال تعالى "ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها" وقال تعالى "ويطوف عليهم ولدان مخلدون" وقال تعالى "بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم" وقال تعالى "ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه" وقال تعالى "ذلك يوم الخلود" وقال تعالى "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا ذلك الفوز العظيم" وقال تعالى "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا قد احسن الله له رزقا" وقال تعالى "اولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابدا رضي الله عنهم ورضوا عنه".

فهذه الآيات التي استحضرناها في بقاء الجنة والنار وبدأنا بالنار لأنا وقفنا على تصنيف لبعض أهل العصر في فنائها وقد ذكرنا نحو مائة ءاية منها نحو من ستين في النار ونحو من أربعين في الجنة وقد ذكر الخلد أو ما اشتق منه في أربع وثلاثين في النار وثمان وثلاثين في الجنة وذكر التصريح بعدم الخروج أو معناه في أكثر من ثلاثين, وتضافر هذه الآيات ونظائرها يفيد القطع بإرداة حقيقتها ومعناها وأن ذلك ليس مما استعمل فيه الظاهر في غير المراد به ولذلك أجمع المسلمون على اعتقاد ذلك وتلقوه خلفا عن سلف عن نبيهم صلى الله عليه وءاله وسلم وهو مركوز في فطرة المسلمين معلوم من الدين بالضرورة بل وسائر الملل غير المسلمين يعتقدون ذلك ومن رد ذلك فهو كافر ومن تأوله فهو كمن تأول الآيات الواردة في البعث الجسماني وهو كافر ايضاً بمقتضى العلم.

وقد وقفت على التصنيف المذكور وذكر فيه ثلاثة أقوال في فناء الجنة والنار:

أحدها أنهما تفنيان وقال انه لم يقل به أحد من السلف والثاني انهما لا تفنيان والثالث ان الجنة تبقى والنار تفنى ومال الى هذا واختاره وقال انه قول السلف ومعاذ الله وأنا ابرىء السلف عن ذلك ولا اعتقد ان أحداً منهم قاله وإنما روي عن بعضهم كلمات تتأول كما تتأول المشكلات التي ترد وتحمل على غير ظاهرها فكما ان الآيات والاحاديث يقع فيها ما يجب تأويله كذلك كلام العلماء يقع فيه ما يجب تأويله ومن جاء الى كلمات ترد عن السلف في ترغيب وترهيب او غير ذلك فأخذ بظاهرها وأثبتها اقوالاً ضل وأضل وليس ذلك من دأب العلماء ودأب العلماء التنقير عن معنى الكلام والمراد به وما انتهى الينا عن قائله فاذا تحققنا ان ذلك مذهبه واعتقاده نسبناه إليه وأما بدون ذلك فلا ولا سيما في مثل هذه العقائد التي المسلمون مطبقون فيها على شيء كيف يعمد الى خلاف ما هم عليه ينسبه الى جلة المسلمين وقدوة المؤمنين ويجعلها مسألة خلاف كمسألة في باب الوضوء ما أبعد من صنع هذا عن العلم والهدى وهذه بدعة من أنحس البدع وأقبحها أضل الله من قالها على علم.

فان قلت قد قال الله تعالى "لا بثين فيها احقاباً" قلت: هو جمع منكر يصدق على القليل والكثير وعلى ما لا نهاية له فان قلت هو جمع قلة لأن افعالاً من جموع القلة قلت قد تجمع القلة بجمع الكثرة وأيضاَ فالحقب الزمان والزمان يصدق على القليل والكثير فاذا كان المفرد كذلك فما ظنك بالجمع فان قلت: قد قيل ان الحقب ثمانون سنة السنة ثلثمائة وستون يوماً اليوم كألف سنة مما تعدون اليوم منها كالدنيا كلها. قلت: اذا صح ذلك فغاية الاخبار بأنهم لا بثون فيها ذلك ولا يدل على نفي الزيادة إلا بالمفهوم والمنطوق يدل على التأييد والمنطوق مقدم على المفهوم, هذا ان جعلنا احقاباً آخر الكلام وقد جعله الزجاج وغيره موصوفاً بقوله "لا يذوقون فيها برداً ولا شربا" وعلى هذا لا يبقى فيه متعلق البتة فان قلت: قد روي عن الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون. قلت ان ثبت ذلك عنه يرجع الجواب الى بعض ما تقدم من الصفة أو الغاء المفهوم أو ان الذي لا يتناهى يقال انه لا يدري أحد ما هو وان كان يدري انه لا يتناهى فان دراية عدم العدد يلزم منها عدم دراية العدد فان قلت قد قال هذا المصنف ان قول الحسن لا يدري ما هي يقتضي ان لها عدداً والله أعلم به ولو كانت لا عدد لها لعلم كل أحد انه لا عدد لها قلت ان قوله لا يدري ما هي يقتضي ان لها عدداً ليس بصحيح لأنه لم يقل لا يدري عددها بل قال لا يدري ما هي وما هي أعم المطالب فيدخل فيه المتناهي وغير المتناهي وقوله ولو كانت لا عدد لها لعلم كل أحد بذلك فقد يعلمه بعض الناس دون بعض, والحاصل ان الأحقاب قيل محدودة وهو قول الزجاج القائل بأن (لا يذوقون صفة) وقيل غير محدودة وقيل الآية منسوخة بقوله تعالى "فلن نزيدكم إلا عذاباً" ولا يستبعد النسخ في الأخبار ولا سيما مثل هذا فان هذا مما يقبل التغيير وهو أمر مستقبل والاكثرون على أنها غير محدودة وان المراد كلما مضى حقب جاء حقب فان قلت: فما تقول فيما روي عن الحسن البصري انه سئل عن هذه الآية فقال الله اعلم بالاحقاب فليس فيها عدد الا الخلود؟ قلت: قول صحيح لا يخالف لما تقدم وتصريحه بالخلود بين مراده فان قلت: فقد قال هذا المصنف ان قول الحسن حق فانهم خالدون فيها لا يخرجون منها ما دامت باقية. قلت قوله ان الحسن حق صحيح وليس ذلك بخلود فانك اذا قلت فلان خالد في هذه الدار الفانية لا يصح وحقيقة الخلود التأييد وقد يستعمل في المكث الطويل مجازاً وأما استعماله في الخلود في مكان الى حين فنائه فهذا معنى ثالث لم يسمع من العرب فان قلت: ما تقول في قول من قال ان الآية في عصاة المؤمنين قلت: ضعيف لقوله "انهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا".

اللهم الا ان نجعلها عامة ويكون التعليل ليس للجميع بل لبعضهم وقد يجيء في الكلام الفصيح مثل ذلك أو يراد بالطاغي الكافر فانها مرصاد لهم والعصاة فيها تبع لهم فجاء قوله "لابثين فيها احقابا" للتابعين والمتبوعين جميعاً ثم جاء التعليل للمتبوعين لأنهم الأصل فان قلت: قوله تعالى في سورة الانعام "يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس" الى قوله "مثواكم النار خالدين فيها الا ما شاء الله" وأولياؤهم هم الكفار لقوله "وان الشياطين ليوحون الى اوليائهم" وقوله في سورة هود في أهل الجنة وأهل النار "إلا ما شاء ربك" على ماذا يحمل اذا كانتا باقيتين؟ قلت: قد تكلم الناس في ذلك واكثروا وذكر ابو عمرو الداني في تصنيف له في ذلك سبعة وعشرين قولا ليس فيها ان الكفار يخرجون من النار وإنما اقوال أخر منها أنه استثناء المدة التي قبل دخولهم أو الازمنة التي يكون أهل النار فيها في الزمهرير ونحوه وأهل الجنة فيها هو أعلى منها من رضوان الله وما لا يعلمه الا هو أو انه استثناء معلق بالمشيئة وهو لا يشاء خروجهم فهو ابلغ في التأيد أو ان إلا بمعنى الواو كقوله إلا الفرقدان او انها بمعنى سوى حكاه الكوفيون كقوله (الا ما قد سلف) وقوله "لو فيهما آلهة الا الله" او ان الاستثناء لما بعد السموات والأرض كقوله لا تكسل حولاً الا ما شئت معناه الزيادة على الحول او انه لعصاة المؤمنين والذي يدل على التأيد قوله في الجنة "عطاءَ غير مجذوب" فلو لم يكن لكان مقطوعاً فيتعين الجمع بين أول الآية وآخرها فبقي يقيناً الاستثناء على ظاهر هذا المجاز في قوله "عطاء غير مجذوب" وليس التجوز فيه بأولى من التجوز في الاستثناء ويرجح التجوز في الاستثناء الادلة على التخليد وقوله في النار "ان ربك فعال لما يريد" يناسب الوعيد والزيادة في العذاب ولا يناسب الانقطاع.

واعلم ان "ما شاء ربك" ظاهره استثناء مدة زمانية من قوله "ما دامت السموات والارض" ويحتمل ان يراد بها مكان ويكون الاستثناء من الضمير في فيها ويراد به الطبقة العليا التي هي لعصاة المؤمنين فكأنه قال الا ما شاء ربك من امكنة جهنم فان قلت قد قال ابو نضرة: القرءان كله ينتهي الى هذه الآية "ان ربك فعال لما يريد" قلت: هذا كلام صحيح والله يفعل ما يريد وليس في ذلك انه يخرج الكفار من النار قلت: قد قال ابو سعيد الخدري رضي الله عنه وقتادة الله اعلم بتثنيته على ما وقعت. قلت صحيح لأن تعيين كل واحد من الأقوال التي حكيناها ضعيف والله اعلم به وبغيره وليس في كلام أبي سعيد وقتادة ما يحتمل خروج الكفار من النار فان قلت: قد روى الطبراني عن يونس عن ابن أبي ذئب عن ابن زيد في قوله "عطاء غير مجذوذ" قال اخبرنا الذي شاء لأهل الجنة فقال "عطاء غير مجذوذ" ولم يخبرنا بالذي شاء لأهل النار. قلت: هذا الذي يقتضي ان ابن زيد يقول بعدم الانقطاع لأنه جعل "عطاء غير مجذوذ" هو الذي شاءه وهو الذي بعد الاستثناء فكذا يكون في أهل النار ان الاستثناء لا يدل على الانقطاع ولكنه لم يبين ما بعده بل قال تعالى "ان ربك فعال لما يريد" فان قلت: فقد قال السدّي انها يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج. قلت ان صح هذا عن السدي انها يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج فهو محمول على انه حملها على العصاة لأن الطامعين هم المسلمون فان قلت: قد روى عبد بن حميد في تفسيره عن سليمان بن حرب انا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال عمر رضي الله عنه لو لبث أهل النار في النار بقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون. قلت: الحسن لم يسمع من عمر وقد رأيت هذا الأثر في تفسير عبد في موضعين في أحدهما يخرجون وفي الآخر يرجون لا تصريح فيه فقد يحصل لهم رجاء ثم ييأسون ويخرجون يحتمل ان يكون من النار الى الزمهرير ويحتمل ان يكون ذلك في عصاة المؤمنين فلم يجيء في شيء من الآثار انه في الكفار فان قلت: قد قال: هذا المصنف انه يحتج على فناء بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة وان القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا اقوال الصحابة رضي الله عنهم. قلت: هذا الكتاب والسنة بين اظهرنا بحمد الله وهما دالان على بقائهما. فان قلت: قد قال في (مسند أحمد) ولكنه في غيره وهو ضعيف ولو صح حمل على طبقة العصاة. فان قلت: قال حرب الكرماني: سألت اسحق عن قول الله تعالى "الا ما شاء ربك" فقال أتت هذه الآية على كل وعيد في القرءان وعن أبي نضرة عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وءاله وسلم قال: هذه الآية تأتي على القرءان كله حيث كان في القرءان "خالدين فيها" تأتي عليه. قلت: ان صحت هذه الآثار حملت على العصاة لأن القرءان لم يرد فيه خروج العصاة من النار صريحا إنما ورد في السنة بالشفاعة فالمراد بهذه الآثار موافقة القرءان للسنة في ذلك فان السلف كانوا شديدي الخوف ولم يجدوا في القرءان خروج الموحدين من النار وكانوا يخافون الخلود كما تقوله المعتزلة فان قلت: قال ابن مسعود رضي الله عنه ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً. قلت ان صح هذا عن ابن مسعود حمل على طبقة العصاة وقوله أحقاباً يحمل على أحقاب غير الأحقاب المذكورة في القرءان حتى يصح الحمل على العصاة. فان قلت: قال الشعبي جهنم أسرع الدارين عمرانا واسرعهما خرابا. قلت أنا أعيذ الشعبي من ذلك فانه يقتضي خراب الجنة. فان قلت: قد اعترض هذا المصنف على الإجماع لأنه غير معلوم فان هذه المسائل لا يقطع فيها بإجماع نعم قد يظن فيها الإجماع قبل ان يعرف النزاع وقد عرف النزاع قديماً وحديثاً بل الى الساعة. قلت: الإجماع لا يعترض عليه بأنه غير معلوم بل يعترض بنقل خلاف صريح ولم ينقله وإنما هو من تصرفه وفهمه وقوله ان هذه المسائل لا يقطع فيها باجماع دعوى مجردة. فان قلت قد قال لم اعلم أحداً من الصحابة رضي الله عنهم قال لا تفنى وإنما المنقول عنهم ضد ذلك لكن التابعون نقل عنهم هذا وهذا.

قلت: هو مطالب بالنقل عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ولن يجده وغايته كما قلت لك ان يأخذه من كلمات وردت فهم منها ذلك, ويجب تأويلها تحسيناً للظن بهم. فان قلت: قد قال انه ليس في القرءان ما يدل على انها لا تفنى بل الذي يدل عليه ظاهر القرءان انهم خالدون فيها ابدا وأنه يقتضي خلودهم فيها ما دامت باقية لا يخرجون منها مع بقائها وبقاء عذابها كما يخرج أهل التوحيد. قلت: قد قلت لك ان حقيقة الخلود في مكان يقتضي بقاء ذلك المكان وقد تأملت كلام المصنف فلم ار فيه زيادة على ذلك بل اندفع في ذكر الآيات وأحاديث الشفاعة ولم يبين ما يؤول اليه أمر الكفار بعد فناء النار. فان قلت: قد فرق بين الجنة والنار شرعاً وعقلا أما شرعاً فمن وجوه: أحدهما ان الله تعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامها وانه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه كما اخبر ان اهل الجنة لا يخرجون منها, وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك بل اخبر ان اهلها لا يخرجون منها. قلت: قد اخبر في النار وأهلها انهم في عذاب مقيم وانهم لا يفتر عنهم ولا يخفف عنهم فلو فنيت لكان اما ان يموتوا فيها أو يخرجوا وكل منهما أخبر في القرءان بنفيه. فان قلت: قد ذكره من الوجوه الشرعية ان الجنة من مقتضى رحمته والنار من عذابه فالنعيم من موجب اسمائه التي هي من لوازم ذاته فيجب دوامه بدوام معاني اسمائه وصفاته والعذاب من مخلوقاته والمخلوق قد يكون له انتهاء لا سيما مخلوق خلق لحكمة تتعلق بغيره. قلت: ومن اسمائه تعالى شديد العقاب والجبار والقهار والمذل والمنتقم فيجب دوامه بدوام ذاته وأسمائه ايضاً فنقول لهذا الرجل ان كانت هذه الأسماء والصفات تقتضي دوام ما يقتضيه من الافعال فيلزم قدم العالم وان كانت لا تقتضي فلا يلزم دوام الجنة فأحد الامرين لازم لكلام هذا الرجل وكل من الأمرين باطل. فان قلت: قد قال انه اخبر ان رحمته وسعت كل شيء وسبقت رحمتي غضبي فاذا قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة. قلت: الآخرة داران دار رحمة لا يشوبها شيء وهي الجنة ودار عذاب لا يشوبه شيء وهي النار وذلك دليل على القدرة والدنيا مختلطة بهذا وبهذا فقوله اذا قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة ان اراد نفي الرحمة مطلقا فليس بصحيح لأن هناك كمال الرحمة في الجنة وان اراد لم يكن في النار قلنا له وان قال انها شيء والعقاب شيء وقد قال تعالى "فسأكتبها للذين يتقون" فان قلت قد ثبت انه حكيم رحيم والنفوس الشريرة التي لو ردت الى الدنيا لعادت لا تصلح ان تسكن دار السلام فإذا عذبوا عذاباً تخلص نفوسهم من ذلك الشر كان هذا معقولا في الحكمة أما خلق نفوس تعمل الشر في الدنيا وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره, ولهذا كان جهم ينكر ان يكون الله تعالى أرحم الراحمين بل يفعل ما يشاء والذين سلكوا طريقته كالأشعري وغيره ليس عندهم في الحقيقة له حكمة ولا رحمة وإذا ثبت انه حكيم رحيم وعلم بطلان قول جهم تعين إثبات ما تقتضيه الحكمة والرحمة وما قاله المعتزلة ايضا باطل فقول القدرية والمجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل ومن اعظم غلطهم اعتقادهم تأبيد جهنم فان ذلك مستلزم ما قالوه وقد اخبر تعالى ان أهل الجنة والنار لا يموتون فلا بد لهم من دار ومحال ان يعذبوا بعد دخول الجنة فلم يبق الا دار النعيم والحي لا يخلو من لذة او ألم فإذا انتفى ألالم تعينت اللذة الدائمة.

قلت : قد صرح بما صرح به في أخر كلامه فيقتضي ان ابليس وفرعون وهامان وسائر الكفار يصيرون الى النعيم المقيم واللذة الدائمة وهذا ما قال به مسلم ولا نصراني ولا يهودي ولا مشرك ولا فيلسوف اما المسلمون فيعتقدون دوام الجنة والنار واما المشرك فيعتقد عدم البعث واما الفيلسوف فيعتقد ان النفوس الشريرة في الم فهذا القول الذي قاله هذا الرجل ما نعرف احدا قاله وهو خروج عن الإسلام بمقتضى اهل العلم اجمالا وسبحان الله اذا كان الله تعالى يقول (اولئك الذين يئسوا من رحمتي) وكذلك قوله تعالى (كلما خبت زدناها سعيرا) ونبيه صلى الله عليه وسلم يخبر بذبح الموت بين الجنة والنار ولا شك ان ذلك إنما يفعل إشارة الى اياسهم وتحققهم البقاء الدائم في العذاب فلو كانوا ينتقلون الى اللذة والنعيم لكان ذلك رجاء عظيما لهم وخيرا من الموت ولم يحصل لهم اياس فمن يصدق بهذه الايات والاحاديث كيف يقول هذا الكلام وما قاله من مخالفة الحكمة جهل وما ينسبه الى الاشعري رضي الله عنه افتراء عليه نعوذ بالله تعالى منه.

فان قلت: قد يقول انه تخلص نفوسهم من الشر بذلك العذاب فيسلمون. قلت معاذ الله اما اسلامهم في الاخرة فلا ينفعهم بإجماع المسلمين وبقوله تعالى: (لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن امنت من قبل) وأما خلوصهم من الشرط فباطل لقوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم) و(طبع على قلوبهم) فهذا يستحيل ان يخرج الشر من قلوبهم او يدخل فيها خير. فان قلت: ما في خلق هؤلاء من الحكمة قلت: اظهار القدرة واعتبار المؤمنين وفكرتهم في عظمة الله تعالى القادر على ان يخلق الملائكة والبشر الصالحين والأنبياء ومحمداً صلى الله عليه وءاله وسلم سيد الخلق وعلى ان يخلق من الطرف الآخر فرعون وهامان وأبا جهل وشياطين الجن والانس وابليس رأس الضلال والقادر على خلق دارين متمحضة كل واحدة منهما هذه للنعيم المقيم وهذه للعذاب الأليم ودار ثالثة وهي الدنيا ممتزجة من النوعين فسبحان من هذه قدرته وجلت عظمته وكان الله سبحانه قادراً ان يخلق الناس كلهم مؤمنين طائعين ولكن اراد سبحانه ان يبين الشيء وضده عمله من عمله وجهله من جهله, والعلم منشأ السعادة كلها نشأ عنه الايمان والطاعة, والجهل منشأ الشقاوة كلها نشأ عنه الكفر والمعصية وما رأيت مفسدة من أمور الدنيا والآخرة تنشأ إلا عن الجهل فهو اضر الاشياء. فان قلت: قد نقل عن جهم واصحابه انهم قالوا بفناء الجنة والنار وان أئمة الإسلام كفروهم بذلك لأربع آيات من القرءان قوله تعالى "أكلها دائم" و"ماله نفاذ" "لا مقطوعة ولا ممنوعة" "عطاء غير مجذوذ" ولما رواه الطبراني وابن ماجة في التفسير. قلت: من قال بفناء الجنة والنار أو أحدهما فهو كافر. فان قلت: قد قال هذا المصنف ان هذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام استدلوا به على حدوث الأجسام وحدوث ما لا يخلو من الحوادث قلت: في هذا دسيسة يشبه ان يكون هذا المصنف قصد به التطرق الى حلول الحوادث بذات الباري تعالى وتنزه وقد أطال الكلام في ذلك وقال بعده انه اشتبه هذا على كثير من أهل الكلام هذا ما اعتقدوه حقاً حتى بنوا عليه حدوث ما لم يخل عن الحوادث ثم قال وعليه ايضا نفي الصفات لأنها اعراض لا تقوم إلا بجسم هذا كلامه ويشبه ان يكون عمل هذا التصنيف وسيلة الى تقرير ذلك نسأل الله تعالى العافية والسلامة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وءاله وصحبه وأزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

قال مصنفها التقي السبكي:
صنفتها في ذي الحجة سنة ثمان واربعين وسبعمائة والحمد لله رب العالمين.
 

المكتبة السنّية

:: عودة للمكتبة

تم بحمد الله

:: الصفحة الرئيسية

الصفحة الرئيسية